شغلتنا القشور عن لب الموضوع و صار جُل همِّنا دقائق القانون و مواد الدستور. نسينا أن الوطن يتمزق إرباً إرباً مع مرور كل يوم، و مع كل كلمة تعبر الأثير، اجتذبتنا الوقائع الافتراضية فنسينا الحقيقة و نسيتنا، تفسخت أفئدتنا و انسلخت عنها ضمائرنا و استعبدتنا وريقات دستور لم يأتي و ظننا أنه الشاش و الرباط لجروح الوطن.
استئسد على الوطن أصحاب البدل الفرنجية و الأيدي المخملية و ارتفعت عقيرتهم بالغناء الفاحش عن الثراء السريع و الأبراج المتعالية فنهبتنا الأحلام التي لن تصير من واقعنا المرير و أصبحنا كالمريض المغيب عن نفسه لا يرى إلا ما تجود به غياهب المخيلة المصطنعة المدجنة.
سدل الحاوي على أعيننا منديل الغياب فلم نرى وميض الحقيقة و هي تمر أمامنا صارخة حينا، صامتة أحيانا. لم نراها لأننا ابتذلنا عقولنا رخيصة لكل شارٍ بثمن بخس أحلام معدودات.
استغفلنا أنفسنا و لم نرى الفساد ينخر عظام الوطن و يقتلع أوتاده في لمح البصر، تاه الناس تحت خُيلاء أولئك الذين لم يروا إلا حرف القاف بدل التاء ،حين ماتت إنسانية هؤلاء المختالون و تدارؤوا عن فضائع حكومة زيدان و بلاهتها و وهنها، و تزلفوا مع المتزلفين للأوغاد الجدد ، هؤلاء الذين استبدلوا عمامة الصحراء و بسكل العرب بقبعات الإنجليز و أردية الصوف بحرير الفرنسيس الزاهي الألوان.
راق لهم الحوار تلو الحوار و المناظرة و الجدال و رسم خرائط الدوران و لم يروا شبكات الفساد تبعث من جديد و صموا الآذان عن سماع الشكاوى من عصابات الجضران و قطاع الطرق الذين أمعنوا الطعن في صدر الوطن و ربط حبال الفساد حول وزارات الوطن، لكن هيهات هيهات يا وطن، ولسان حال هؤلاء داري عني الوغى إنني إرتضيت الوهن و سلمت الأمر و أنا أقنع بالفتات و كرم كل من نهب.
ساستهم بحثوا عن الشيطان تلو الشيطان، و بحث عنهم الشيطان و حاول عبثا مرة بعد مرة أن ينسج حبال وهم البطل و يشدهم بها، انقلب فسخروا منه، و انقلب ثانية فسخروا منه مرة أخرى، فلما رأوه و قد عزف على الوتر و انضمت له جوقة الحذاق ارتموا في حضنه كالبغي عندما ترى الذهب.
عندما اجتازت الحلقوم و رأى الثوار حلقات العسكر تتواصل شرقا و غربا و لم يروا إلا الوغى دفعا له، تناسى هؤلاء الدماء و الأرواح و لم يروا إلا حريق بضعة طائرات و لم يروا حريق الوطن، كان جل دوائهم الموصوف هو اسكت و استمع لما تؤمر و انتهي عن السؤال و التذمر و تجنب الحياد عن درب كل وغد آفاق.
آتوني بما يطفئ الحريق و يقتص من السارق و القاتل و يحميني من عبث الضابط العجوز المجنون، آتوني بدولة مجردة من وزارات القبائل و قبائل الوزارات و كتائب الخِلان الأحباب، دولة لا أرى فيها ساسة يرتمون في أحضان تلك المليشيا أو الأخرى، حينها فلنبكي معا على قواعد النحو و الإملاء و نعلم أبنائنا أسرار البلاغة و إبداع الكلم، و سنسعد سويا كلما تحط طائرة ذهبية و تقلع أخرى و بها مواطنين ليبيين ذاهبون للعلم و السياحة و ليس طلبا للطبابة و الغواية.